تحقيق: ميثا الأنسي
في مشهدٍ يتشابك فيه الإيقاع المتسارع للحياة المعاصرة مع متطلبات الواقع العملي والتعليمي، يجد الشباب أنفسهم في قلب معادلة دقيقة، تتطلب منهم التوفيق بين عالمين متوازيين: عالم المعرفة الأكاديمية، وعالم التجربة المهنية، ولم يعد الفضاء الجامعي وحده كافياً لبناء الكفاءة، ولم تعد مقاعد الدراسة بمعزل عن صخب الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ولقد تشكل جيل جديد من الطلاب، لا يكتفي بالانكفاء على الكتب والمحاضرات، بل ينفتح على ميادين العمل باحثاً عن تجربة تصقل مهاراته وتُكسبه أدوات العبور نحو المستقبل.
إن هذا التداخل بين طلب العلم وممارسة العمل لا ينطوي فقط على عبء مزدوج، بل على فرصة مزدوجة أيضاً، فهو امتحان يومي في إدارة الذات، وتدبير الوقت، ومقاومة الإرهاق، لكنه في الوقت نفسه محفّز على اكتساب خبرات نوعية لا تمنحها الصفوف التقليدية، العمل أثناء الدراسة لا يُختزل في الحاجة المادية، بل يتجاوزها إلى تكوين وعي عملي، ورؤية أكثر نضجاً تجاه سوق العمل ومتطلباته، فيما تظل الدراسة، بكل أبعادها النظرية والفكرية، حجر الأساس في صياغة الفكر وتشكيل البنية المعرفية التي لا غنى عنها في فهم العالم وتحليله.
فاعل متعدد الأدوار
ورغم ما ينطوي عليه هذا الازدواج من ثقل نفسي وجسدي، إلا أن التجربة تكشف عن ضرورة إعادة النظر في مفهوم «الطالب» ذاته، بوصفه فاعلاً متعدد الأدوار، لا متلقّياً سلبياً، ومن هنا تنبع أهمية توفير بيئة مؤسسية ومجتمعية تستوعب هذا التحول، وتسانده بسياسات أكثر مرونة، تدرك أن الطالب المعاصر لم يعد معزولًا عن ضغوط الواقع، بل بات جزءاً عضوياً منه، يتعلم في النهار ويكدّ في المساء، يحمل في حقيبته الكتب وسيرته الذاتية على حدٍ سواء.
«الخليج» تسلط الضوء في التحقيق التالي في سياق استقصاء تجارب شبابية حية لموظفين على مقاعد الدراسة الجامعية، استطاعت أن تتجاوز الانقسام التقليدي بين التعلم والعمل، وأن تُقيم جسوراً بين النظرية والتطبيق، كما ينفتح على رؤى أكاديمية ومجتمعية، تسعى لتقديم تصورات فاعلة تمكن الشباب من خوض هذه المرحلة بوعي واستعداد، بعيداً عن الإنهاك أو الارتجال، ليغدو التوازن بين الدراسة والعمل مشروعاً للحياة، لا مجرد تحدٍ عابر.
إصرار لا يشيخ
قال راشد محمد شيري، موظف وطالب جامعي: «بعد سنوات من التوقف، عدتُ إلى مقاعد الجامعة، ولم يكن القرار سهلاً، فقد تراكمت المسؤوليات، وتغيرت الأولويات، وتسلل إلي شعور أن الوقت قد فات، ولكن في داخلي، ظل حلم إكمال تعليمي حاضراً، يذكرني دائماً أن الطموح لا يرتبط بمرحلة عمرية، ولا يتوقف بسبب ظروف مؤقتة».
وأضاف: «العودة إلى الدراسة بعد انقطاع كانت تجربة مليئة بالتحديات، من إعادة التأقلم مع بيئة أكاديمية، إلى تنظيم الوقت بين الدراسة والحياة اليومية، وشعرتُ أحياناً بالقلق، وأحياناً بالتردد، لكنني في كل مرة كنت أذكّر نفسي بأنني أفعل هذا لأجل نفسي أولاً، لأجل مستقبلي الذي أريده أن يكون أكثر اتساعاً وفرصاً».
وأوضح: «ما اكتشفته في هذه الرحلة أن العودة لا تعني فقط إكمال شهادة، بل عودة الثقة للذات، وللإيمان بأنني قادر على تجاوز العقبات وتحقيق ما توقفت عنه يوماً، قد يكون الطريق أطول قليلًا، لكنه مليء بالمعاني».
رحلة الطموح والإنهاك الجميل
أما حنان سالم محمد فتروي تجربتها قائلة: «أنا موظفة وأدرس في الجامعة في نفس الوقت، وصدقاً، لم أكن أتوقع أن أتعلم خلال هذه التجربة، والتوفيق بين العمل والدراسة يحتاج أكثر من تنظيم وقت، يحتاج قوة داخلية، ومرونة، وصبر على الأيام الصعبة، وهناك أوقات أدرس فيها في استراحتي من العمل، وأحياناً أراجع المحاضرات في طريق عودتي إلى البيت، وغالباً أنام متأخرة وأستيقظ مبكراً، لكنني رغم كل ذلك، أشعر بأنني أقرب من أي وقت مضى إلى الشخص الذي أطمح أن أكونه، وهذا الطريق علمني كيف أعتني بأهدافي، حتى عندما أكون مرهقة، وجعلني أقدّر كل إنجاز، حتى الصغير منها، لأنه جاء وسط ظروف مزدحمة».
صراع صامت
تقول شيخة راشد الهاشمي، طالبة وموظفة: «أنا فتاة أعمل وأدرس في الجامعة، وجزء كبير من الصعوبة لا يأتي من ضغط المهام أو قلّة الوقت، بل من شعوري الدائم بأنني وحدي في هذا الطريق، وجهة عملي لا تراعي أنني طالبة، ولا تُقدّر أنني أحاول أن أطور نفسي، وأطلب تغيير بسيط في الجدول بسبب اختبار، فلا أُقابل بالتفهم، بل أُشعر وكأنني أُقصر، رغم أنني أعطي كل ما استطيع، وأعود للبيت مرهقة جسدياً ونفسياً».
استكمال الدراسة ضرورة وليست ترفاً
من جانبٍ آخر، يؤكد خبيران في الموارد البشرية أن تمكين الموظفين من استكمال دراستهم الجامعية لم يعد ترفاً، بل ضرورة استراتيجية تتطلب تعاون المؤسسات التعليمية وجهات العمل معاً، لضمان بيئة أكثر مرونة تُوازن بين متطلبات الوظيفة وطموحات التعلم.
تفرغ دراسي
وفي هذا، يؤكد سعيد عبيد الطنيجي، خبير الموارد البشرية، أن تسهيل الدراسة للموظف يمثل ضرورة استراتيجية في ظل التحولات المعرفية المتسارعة، إذ يُعد تمكين الكوادر الوطنية من استكمال دراستهم الأكاديمية — سواء داخل الدولة أو خارجها — من روافد تعزيز الأداء المؤسسي، وأن تفرغ الموظف للدراسة بات قضية محورية تتطلب توازناً دقيقاً بين طموحات الفرد ومتطلبات جهة العمل، خاصةً مع اختلاف الأنظمة التنظيمية للتفرغ بحسب نوع الدراسة ومكانها، حيث يمنح الموظف تفرغاً جزئياً أو كاملًا بحسب طبيعة البرنامج الدراسي ومدى ارتباطه باحتياجات المؤسسة.
بيئة محفزة
وأوضح الطنيجي، أن المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية تلعب دوراً مهماً في تيسير دراسة الموظفين من خلال سياسات متنوعة تشمل الدعم المؤسسي واللوجستي، وتوفير مرشدين أكاديميين، والتنسيق مع الجامعات، فضلاً عن تبني نماذج عمل مرنة تسمح بالتوفيق بين الدراسة والعمل، كما تشمل هذه المبادرات دعماً مالياً مباشراً عبر البعثات الدراسية، أو غير مباشر عبر تغطية الرسوم، إلى جانب ربط التحصيل الأكاديمي بالحوافز وفرص الترقية، في بيئة تشجع على التعلم المستمر والمبادرات الفردية.
وأشار الطنيجي، إلى أن أبرز التحديات تكمن في نقص التفاهم أحياناً بين إدارات العمل والدارسين، وصعوبة موازنة الأعباء الأكاديمية مع المسؤوليات الوظيفية، إلى جانب الشروط الصارمة لبعض البعثات، ودعا إلى تحديث سياسات الموارد البشرية، وإنشاء قاعدة بيانات للموظفين الدارسين، وتعزيز الشراكات مع مؤسسات التعليم العالي، ومؤكداً أن دعم الدراسة للموظف ليس خياراً رفاهياً، بل ركيزة لبناء جهاز إداري قادر على مواكبة التطورات ودفع عجلة التنمية الوطنية.
توازن معرفي
بدوره يضيف، يوسف أحمد الحمادي، خبير موارد بشرية، أن الجمع بين الدراسة والعمل يعد تحدياً كبيراً، حيث يتطلب كل منهما وقتاً وجهداً والتزاماً، وعندما يسعى الفرد إلى التوفيق بين الاثنين، قد يواجه صعوبات في إدارة وقته، بالإضافة إلى الشعور بالضغط النفسي أو الإرهاق، لذلك من الضروري أن يتوفر الدعم من جهة العمل والجامعة على حد سواء، لتخفيف العبء وتسهيل استمرارية التعلم والتطور المهني.
تعليم مرن
وأوضح بأن جهة العمل تلعب دوراً محورياً في تسهيل تجربة الجمع بين الدراسة والعمل، من خلال منح الموظف مرونة في جدول العمل، أو توفير إجازات دراسية، وأحياناً تقديم دعم مالي للرسوم التعليمية، كما أن تشجيع التطوير المهني وتقديم الدورات التدريبية يُعد من مظاهر الدعم الإيجابي، وبالمقابل قد تصعب بعض المؤسسات الأمر برفض تعديل الجداول أو بزيادة الضغط الوظيفي، أو بعدم الاعتراف بالمؤهلات الجديدة التي يحصل عليها الموظف، ما يقلل من دافعية التعلم.
وقال: «أما من جهة الجامعات، فهناك دور مهم يمكن أن تلعبه لتيسير الدراسة على الموظفين، مثل توفير برامج مسائية أو أونلاين، وإتاحة المرونة في مواعيد تسليم المهام والامتحانات، إلى جانب الاعتراف بالخبرات العملية، وكما تسهم خدمات الدعم الأكاديمي في تمكين الطالب الموظف من النجاح، ومع ذلك، قد تكون بعض الجامعات غير متفهمة لظروف الموظفين من خلال فرض الحضور الصباحي، أو تحميل الطلاب واجبات مرهقة، أو عدم تخصيص برامج مرنة لهم، ناهيك عن ارتفاع التكاليف دون أي تسهيلات».
تجربة غنية بالدروس
تؤكد نور محمد علي أن التجربة رغم صعوبتها، غنية بالدروس: «العمل والدراسة في نفس الوقت ليس أمراً سهلاً، لكنه تجربة غنية ومليئة بالدروس، وكموظفة وطالبة جامعية، أواجه يومياً تحديات تتعلق بتقسيم الوقت، وضغط المهام، ومحاولة الحفاظ على التوازن بين الالتزامات المهنية والمتطلبات الدراسية». وأوضحت: «صحيح أن هناك تعباً، وقد تكون هناك لحظات إحباط، لكن شعور الإنجاز والتقدم يعوض كل شيء، وتعلمت كيف أكون أكثر تنظيماً، وكيف أستفيد من كل دقيقة، والأهم أنني أصبحت أقدّر قيمة العلم والعمل معاً، وأنصح كل من يفكر في خوض هذه التجربة ألا يتردد، نعم، الطريق صعب، لكنه ممكن، ومع الوقت ستجد أنك لا تطور نفسك أكاديمياً فقط، بل تبني شخصية قوية قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق الأهداف».
غياب المرونة يضاعف التحديات
يرى محمد علي أحمد، طالب وموظف بدوام كامل، أن غياب المرونة يمثل أحد أكبر التحديات:«أحاول بجد أن أوفّق بين دراستي وعملي، لكن الحقيقة أن هذا التوازن لا يكون ممكناً دائماً، ومن أكبر التحديات التي أواجهها أن بعض أعضاء هيئة التدريس لا يراعون ظروف الطلاب العاملين عند تحديد مواعيد الامتحانات أو تسليم المشاريع، ويحدد موعد اختبار في منتصف يوم عملي، أو يطلب حضور عرض جماعي في وقت يستحيل التغيب عن العمل، وكأن الجميع يعيشون في ظروف واحدة».وأضاف: «أجد نفسي أحياناً مضطراً للمفاضلة بين النجاح الأكاديمي والاستمرار في عملي، وهو قرار قاسٍ لا ينبغي لأي طالب أن يواجهه، وهناك شعور دائم بأنك تسير في طريق ضيق، لا يحتمل الخطأ، ولا يمنحك رفاهية التوازن، لا دعم مؤسسي كافٍ، ولا مرونة حقيقية من جهة العمل أو من بعض الأساتذة».
0 تعليق