نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الذكاء الاجتماعي في تعليم العربية: المعلم وسيط ثقافي قبل أن يكون لغويا - أقرأ 24, اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 12:52 صباحاً
من خلال خبرتي الطويلة مع طلاب من خلفيات وثقافات مختلفة، أدركت أن بداية تعلم العربية لا تقتصر على مواجهة صعوبة المفردات أو قواعد اللغة كما يظن الكثيرون. التحدي الحقيقي يكمن في التواصل بين ثقافتين؛ الطالب القادم من أقصى الغرب أو الشرق، من الشمال أو الجنوب، يحمل في قلبه لغته الأم وعاداته، ثم يجد نفسه في مواجهة لغة جديدة وثقافة مختلفة تماما. هنا يصبح أمامه تحديان معا: أن يتعلم اللغة العربية من جهة، وأن يفهم الثقافة العربية والإسلامية من جهة أخرى. لذلك لا يمكن للمعلم أن يكون ناقل لغة فحسب، بل لا بد أن يلعب دور الوسيط الاجتماعي والثقافي الذي يخفف الصدمة ويجعل عملية التعلم أكثر سلاسة وعمقا.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى الحديث عن الذكاء الاجتماعي، فهو ليس ترفا أو إضافة جانبية، بل شرط أساسي لنجاح المعلم. فالذكاء الاجتماعي - كما عرفه ثورندايك (1920) - هو القدرة على الفهم والتصرف الحكيم في العلاقات الإنسانية، بينما وسعه جولمان (2006) ليشمل بناء الروابط الناجحة مع الآخرين. وهذا بالضبط ما يحتاجه معلم العربية للأجانب في صفه: أن يقرأ طلابه، أن يقدر اختلافاتهم، وأن يحول الصف إلى مساحة آمنة للتعلم والتواصل.
ولعل أول ملمح من ملامح هذا الذكاء هو القدرة على قراءة لغة الجسد وفهم مشاعر الطالب. وهنا يختلف السياق كثيرا من ثقافة إلى أخرى؛ فرفع الصوت في الصف قد يفهم كحماس وتعبير طبيعي عند بعض الطلاب الأفارقة، بينما قد يبدو مخيفا ومهددا عند طالب من اليابان أو كوريا. وقد أثبتت دراسة في Journal of Cross-Cultural Psychology (2018) أن 65% من سوء الفهم في الفصول متعددة الثقافات يرتبط بالإشارات غير اللفظية. ومن تجربتي الشخصية، سمعت طلابا كثيرين يقولون «نخاف عندما يرفع المعلم صوته»، بينما يرى آخرون ذلك أمرا عاديا لا يثير القلق.
ويكمل هذا الجانب بعد آخر، وهو احترام الفروق الفردية. فبين الطالب الخجول والمنفتح، وبين المتحفظ والجريء، يحتاج المعلم أن يعيد ضبط طريقته في التدريس. في كوريا واليابان على سبيل المثال، يستخدم اختبار الشخصية (MBTI) بشكل واسع لفهم الآخر والتعامل معه. أما في صفوف العربية، فالمعلم وحده من يجب أن يكتشف ذلك عبر المقابلة الأولى أو من خلال ملاحظاته في الأسابيع الأولى. تجاهل هذه النقطة تقصير واضح، لأنه قد يجعل الطالب يشعر بأن اللغة حاجز أمامه بدل أن تكون جسرا. والأمر لا يتوقف عند الصف العربي؛ ففي البرازيل مثلا، تستخدم مقاييس الشخصية في الجامعات لفهم الطلاب قبل صياغة المناهج (جامعة ساو باولو، 2020)، وهو ما يعكس وعيا بأهمية الذكاء الاجتماعي في العملية التعليمية.
وتتضح الصورة أكثر حين نقترب من الواقع اليومي. فبعض طلاب شرق آسيا، على سبيل المثال، يحتاجون إلى وقت أطول للتفكير قبل الإجابة، حتى لو كان السؤال بسيطا. وقد بينت دراسة في جامعة أوساكا (2017) أن الطالب الياباني يستغرق وقتا أطول بنسبة 40% عند استخدام لغة أجنبية مقارنة بزملائه الأوروبيين. وهنا يصبح الصبر والتشجيع هما سر نجاح المعلم. وعلى الجانب الآخر، نجد الطالب الأوروبي أو الأمريكي الذي اعتاد ثقافة التواصل المباشر والإجابات السريعة، فيتفاجأ من طول الحوارات العربية أو التكرار في التحيات. أتذكر أحد طلابي الذي قال لي بعد عودته إلى بلده «أصبحت أعزم زملائي في المكتب على الطعام قبل أن آكل، كما تعلمت في العالم العربي».
وفي موقف آخر، أخبرني طالب أنه بدأ يلح أكثر من مرة حين يقدم طعاما أو شرابا لضيوفه، لأنه فهم أن هذا جزء من كرم الضيافة في ثقافتنا. أما في إندونيسيا، فغالبا ما ينظر الطالب إلى المعلم باعتباره سلطة لا تناقش، وعليه أن يتعلم تدريجيا أن النقاش والحوار جزءان أساسيان من ثقافة التعلم في العالم العربي.
وانطلاقا من هذه التجارب، يظهر سؤال عملي: كيف يمكن للمعلم أن ينمي ذكاءه الاجتماعي؟ أحد أهم الأساليب هو الاستماع النشط، وذلك عبر طرح أسئلة عميقة تكشف خلفية الطالب: كيف يفهم العائلة في بلده؟ كيف يحتفل بالأعياد؟ ما دور الابن أو الابنة في أسرته؟ وما وسيلة التواصل الاجتماعي التي يقضي وقته عليها؟ الإجابات هنا ليست مجرد معلومات، بل مفاتيح لفهم شخصية الطالب وثقافته. دراسة في TESOL Quarterly (2019) أثبتت أن الحوار الثقافي يزيد من دافعية الطالب بنسبة 30%.
ولا يقل أهمية عن ذلك بناء علاقة إيجابية عبر سياسة «الباب المفتوح»، حيث يشعر الطالب أن باب المعلم وساعاته المكتبية دائما متاحة، مما يخلق مناخا من الثقة. أما على المستوى العملي، فإن الأنشطة الجماعية مثل الرحلات الميدانية أو المشاركة في إفطار رمضاني أو حتى تنظيم مناقشات ودية حول تجارب الطلاب في قطر، فهي وسائل عملية لخلق التفاهم الثقافي. وقد طورت الجامعات في إندونيسيا برامج «التعلم بالخدمة» (Service Learning) لتقريب الطالب الأجنبي من المجتمع المحلي، وهو نموذج يمكن الاستفادة منه في صفوف العربية.
وفي النهاية، يمكن القول إن تعليم العربية لغير الناطقين بها لا ينجح بالاعتماد على القواعد وحدها، بل يحتاج إلى جسر من الذكاء الاجتماعي الذي يربط بين العقول والقلوب. كما قال فيتغنشتاين «حدود لغتي تعني حدود عالمي»، وأضيف من تجربتي: المعلم الذكي اجتماعيا هو من يوسع حدود عالم الطالب، لا فقط لغته. إنها دعوة لكل معلم أن يتأمل أدواره الإنسانية قبل الأكاديمية، وأن يرى نفسه وسيطا ثقافيا بين الشرق والغرب، أكثر من كونه ناقل كلمات بين كتاب وسبورة.
0 تعليق