نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الشرق قادم - أقرأ 24, اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 10:17 مساءً
ولو نظرنا إلى الشرق سوف نرى تكتلات كبرى، أهمها مجموعة البريكس BRICS التي تمثل تكتلا له قدرات هائلة: فدول مجموعة البريكس تمثل 54.6% من سكان العالم وما يعادل 40% من الاقتصاد العالمي... أما من حيث المساحة فإن مساحة روسيا وحدها تبلغ أكثر من 17 مليون كيلومتر مربع، والصين تبلغ مساحتها حوالي 9.6 ملايين كيلو متر مربع، وعدد سكانها أكثر من ألف وأربعمائة مليون نسمة، بينما الهند عدد سكانها أكثر من ألف وأربعمائة وخمسين مليون نسمة.
ومن ناحية الناتج المحلي الإجمالي GDP، فتكفي الإشارة إلى أن الناتج الإجمالي الصيني لعام 2024 يعادل 18.74 تريليون دولار، وهو ما يعادل تقريبا مجموع حجم اقتصاديات دول الاتحاد الأوروبي. والأهم أن الناتج الإجمالي الصيني يتوقع له أن يصبح حجمه ضعف حجم اقتصاد الاتحاد الأوروبي عام 2050، بعد أن كان اقتصاد الاتحاد الأوروبي في عام 1980 يعادل عشرة أضعاف حجم الاقتصاد الصيني!
ومن ناحية الموارد، فإن روسيا من أكبر منتجي النفط والغاز في العالم، وتمتلك ثروة هائلة من المعادن والأخشاب، والصين تمتلك موارد ضخمة من معدن الحديد ومجموعة من المعادن النادرة، أما الهند فهي الأخرى تمتلك ثروة كبيرة من الفحم والحديد والمعادن والثروة المائية والزراعية.
أما من ناحية القوة العسكرية، فتكفي الإشارة إلى أن روسيا هي الدولة التي تملك أكبر عدد من الرؤوس النووية الحربية في العالم، وأن جيشها يعد ثاني أقوى الجيوش على وجه الأرض، بينما يعد الجيش الصيني ثالث أقوى الجيوش عالميا، وقدرات الصين العسكرية هي الأخرى لا يمكن تجاهلها، خاصة قدرات البحرية الصينية وسلاحها الجوي...
والمعسكر الشرقي - خاصة الصين وروسيا - على درجة عالية من التقدم في مجال التكنولوجيا العسكرية، كما شهدنا في المواجهة ما بين الهند وباكستان، حيث أسقطت باكستان بطائرات J-10 صينية الصنع عددا من مقاتلات "رافال Rafale" فرنسية الصنع، وما شهدناه عندما تم قصف إسرائيل بصواريخ تشبه كثيرا صواريخ أورشنك Oreshnik الروسية التي لم تستطع إسرائيل والولايات المتحدة معا التصدي لها.. وكذلك ما أعلنته الصين عن عبور طائرتها J-20 الشبحية مضيق تسوشيما Tsushima Strait الاستراتيجي، والذي عبرته الطائرة الصينية دون أن تكتشفها أجهزة الرادار الأمريكية المتطورة، عدا ما رأيناه في الاستعراض العسكري الهائل بمناسبة احتفال الصين بالذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، والذي أبرزت فيه الصين قدراتها الصاروخية والنووية، وغير ذلك من مؤشرات القوة العسكرية والتفوق التكنولوجي، في رسائل واضحة إلى "من يهمهم الأمر" في واشنطن.
ولا ننسى أن الهند هي الأخرى قوة نووية، وأنها تملك أكبر جيش في العالم ولديها قوات بحرية قادرة على العمل عبر مياه المحيطات العميقة "blue-water navy" ما يمكنها من القيام بعمليات عسكرية في أماكن بعيدة عن وطنها.
ومن ناحية القوة الناعمة فلا شك أن التكتلات الشرقية تعطي العالم نماذجا بديلة في مجال التنمية والتطور الصناعي والابتكار العلمي والعلاقة ما بين الدولة والمجتمع، والأهم أنها تعطي العالم نموذجا بديلا للعلاقات الدولية محوره المنفعة المتبادلة بدلا من نموذج "إدارة الصراعات" والقطب الأوحد. وهذا النموذج المبني على المنفعة المتبادلة هو الأكثر قبولا عند كثير من دول العالم التي ضاقت ذرعا بالهيمنة الغربية، ما يجعل من التكتل الشرقي تحديا كبيرا للنموذج الغربي السائد.
ولعل العنصر الأهم في صعود التكتل الشرقي هو العنصر البشري: فالشعوب الشرقية تسودها روح جديدة وهي ترى بلادها تنهض ومستوى معيشتها يرتفع والخدمات والتعليم وفرص العمل تتوفر لأبنائها... وهي بطبيعتها شعوب مقبلة على العلم ومجتهدة في العمل وتعتز بثقافتها وتحترم أسلوب حياتها، وعندها من الثقة في النفس ما يجعلها تبتكر أنظمتها الخاصة وتختار طريقها بنفسها ولا ترضى أن تكون تابعة لأحد.
هذه الصورة على النقيض لما نراه في شعوب الغرب التي تشعر أنها تفقد هويتها بينما تتصارع مجتمعاتها ويعاني أبناؤها من التضخم وتراجع الخدمات وانخفاض مستوى المعيشة، وقد فقدت شعوب الغرب ثقافة الجدية والعمل الشاق واستبدلتها بثقافة الاستحقاق entitlement والامتيازات privileges والفساد الأخلاقي، ولم تعد شعوب الغرب نموذجا يتطلع إليه العالم.
والنظام الدولي الحالي في مركزه نموذج أوروبي أطلسي Euro-centric, Euro-Atlantic model وهو نموذج يتبنى مصالح وأخلاقيات الكتلة الغربية دون اعتبار لغيرها، وقد تمت صياغة هذا النموذج في زمن الصراع ما بين الشيوعية والرأسمالية حين كان الغرب يمثل الملجأ الآمن من الخطر الشيوعي. وهذا التكتل الغربي تمثله من الناحية الاقتصادية "مجموعة الدول السبعG7 " التي لم تعد تمثل سوى 30% من الاقتصاد العالمي.
أما الولايات المتحدة التي تتربع على قمة هذا النموذج فتسيطر عليها تيارات أيدولوجية متطرفة، حتى أصبحت تمر بمرحلة تشبه مرحلة "الثورة الثقافية" التي مرت بها الصين تحت حكم ماو تسي تونغ Mao Zedong، والتي أدت إلى تفشي الاضطرابات والفوضى ومحاربة الطبقة المثقفة في المجتمع الصيني، ما كان له عواقب اقتصادية وسياسية وخيمة... وإن كانت "الثورة الثقافية" الأمريكية في الاتجاه المعاكس للثورة الثقافية الصينية: حيث إنها لا تقوم على فرض أفكار يسارية متطرفة، وإنما على خطاب يميني متشدد. ونتيجة التغيرات التي تمر بها الولايات المتحدة أنها أصبحت تهدم النظام الذي أنشأته وفرضته على العالم: فانسحبت من مجلس حقوق الإنسان Human Rights Council بالرغم من ما كانت تدعيه أن الدفاع عن حقوق الإنسان هو محور السياسة الخارجية الأمريكية، وكذلك انسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية World Health Organisation، وانسحبت من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو UNESCO)، بل ذهبت الولايات المتحدة لأبعد من ذلك وفرضت العقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية وعلى مدعيها العام كريم خان، وغير ذلك من تناقضات مع النظام الذي فرضته الولايات المتحدة على العالم والمسمى بـ"النظام الدولي المبني على القواعد rules based international order".
ولا شك أن الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل فيما ترتكبه من إبادة جماعية وقيامها بتمويل إسرائيل وتوفير السلاح والذخيرة والدعم الاستخباراتي والغطاء السياسي أثناء المذبحة، حتى أن أمريكا استخدمت حق النقض ست مرات في مجلس الأمن حتى تستمر إسرائيل في مذبحة غزة، كان سببا في تقويض آخر ما تبقى من مصداقية أخلاقية لأمريكا، وفقدان قوتها الناعمة.
فالولايات المتحدة التي تقف على رأس التكتل الغربي لم تعد صورتها "حامية حقوق الإنسان" ولا "واحة الديمقراطية" ولم يعد رؤساؤها في مستوى دوايت أيزنهاور أو جون كنيدي، بل ولم تعد حتى تحظى بثقة حلفائها في الغرب... ولعله يكفي النظر إلى الرأي العام في فرنسا وألمانيا - وهما أهم دولتين في غرب أوروبا - حيث تم اجراء إحصائيتين في العام الحالي 2025: الأولى في فرنسا وأظهرت أن 73% من الفرنسيين لا يرون الولايات المتحدة دولة حليفة، والثانية إحصائية تم إجراؤها في ألمانيا وأظهرت أن 16% فقط من الشعب الألماني يري الولايات المتحدة حليفا جديرا بالثقة.
وليس بقية الحلفاء بعيدين عن ذلك، فلو نظرنا إلى الحلفاء الأصغر حجما كدولة الدنمارك مثلا نجد أن الشعور المعادي للولايات المتحدة يتصاعد فيها أيضا، خاصة بعد تصريح الرئيس ترامب أنه سوف يضم جزيرة جرينلاند الدنماركية إلى الولايات المتحدة... فالشعور السائد في القارة الأوروبية هو أن الولايات المتحدة غير جديرة بالثقة، والشكوك تسيطر على العلاقة ما بين المتحالفين في المنظومة التي تعتمد عليها الولايات المتحدة حتى تبقى على قمة العالم.
ولا شك أن التحالف الذي تستند عليه الولايات المتحدة قد ظهرت عليه علامات الشيخوخة، وهو تحالف تم بناؤه في زمن ما بعد الحرب العالمية، وذلك زمن كانت فيه الولايات المتحدة تمثل زعامة أخلاقية في مواجهة الشيوعية وكانت تحظى بثقة حلفائها واعتمادهم شبه الكامل عليها، وكانت الولايات المتحدة وقتها في أوج قوتها الاقتصادية، حتى أن الاقتصاد الأمريكي وحده كان يمثل 50% من الاقتصاد العالمي، وكان الدين العام الأمريكي يعادل 259 بليون دولار فقط.
وشتان بين ذلك الزمن وبين الواقع الحالي، حيث تراجعت ثقة حلفاء الولايات المتحدة في مصداقية تحالفها معهم، وتراجعت الولايات المتحدة ذاتها على عدة أصعدة سياسية وأخلاقية، كما أصبح اقتصادها لا يمثل أكثر من 14.8% فقط من الناتج العالمي الإجمالي بمعيار "تعادل القوة الشرائية purchasing power parity"، وهو المعيار الأكثر دقة عند المقارنة بين اقتصاديات الدول. وفوق ذلك بلغت قيمة الدين الأمريكي 37 تريليون دولار بما يعادل أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي GDP، مع عجز مستمر في الموازنة السنوية.
ما يعني أنه أصبح من شبه المستحيل تسديد الدين الأمريكي، بل إنه لا بد أن يتضخم بصفة مستمرة بسبب الإنفاق الحكومي المتزايد وبسبب فوائد الديون أصبحت توازي مئات المليارات سنويا. ولو رجعنا إلى التاريخ فسوف نجد أن الديون وحدها كانت من أهم أسباب انهيار الدول العظمى، كما حصل مع الإمبراطورية النمساوية والامبراطورية العثمانية والامبراطورية البريطانية.
وعلى حد التعبير الشائع فإن "السمكة تتعفن من الرأس" بمعنى أن فقدان أمريكا لمصداقيتها وقوتها الناعمة ومكانتها الأخلاقية والاقتصادية وتراجع قبول العالم لدورها السياسي قد انعكسا على التكتل الغربي بأكمله الذي لم يعد هو التكتل الأغنى، ولا هو الأكثر تقدما في مجالات عدة، ولا هو النموذج السياسي، أو الاجتماعي أو الفكري أو الأخلاقي المقبول، ولم يعد حتى يمثل الملجأ الآمن. فلم يعد نموذجا يتطلع إليه العالم - باعتراف المفكرين الغربيين أنفسهم - ما سمح بفتح الأبواب أمام توسع نفوذ المعسكر الشرقي حول العالم. وكل ذلك بينما النظام الدولي الحالي يثبت فشله وعجزه في مواقف عديدة، ويواجه تحديات هي في الأغلب أكبر من قدراته الحقيقية.
فالمنظومة الغربية بأكملها في تراجع، بينما يتواصل صعود التكتل الشرقي ويزداد التقارب ما بين أعضائه. ولا يعني ذلك أن المنظومة الغربية على وشك الانهيار، وإنما يعني أن المعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة يتراجع بوضوح أمام صعود التكتل المقابل في الشرق. فالتكتل الشرقي يمثل تحديا كبيرا للغرب، بل وربما يمثل نواة نظام بديل للنظام الدولي الحالي الذي تستند إليه الولايات المتحدة في بسط سيطرتها. وإن كانت المنظومة الغربية لا تزال تهيمن على مصائر الكثير من الشعوب، فالسؤال هو: إلى متى؟
ولو رجعنا إلى التاريخ مرة أخرى سوف نجد أن الاعتماد على التحالفات الكبرى لا يضمن البقاء كقوة عظمى، وأن اعتماد التكتل الغربي على التحالفات للحفاظ على مكانته يشبه كثيرا اعتماد دولة الهابسبورج Habsburg على التحالفات للحفاظ على مكانتها. لكن، عندما تراجعت قدرات دولة الهابسبورج ثبت أن التحالفات لم تكن كافية لبقائها في مكانة لا تتناسب مع قدراتها.
ولا مفر من أن التكتل الغربي سوف يواجه المصير ذاته حين تنكشف قدراته الحقيقية، ولا مفر من أن الأمور لن تعود بعدها كما كانت.
0 تعليق